المشاركات

عرض المشاركات من يونيو, 2025

بوصلة التفضيلات

  في زوايا التفضيلات الصغيرة يكمنُ الكثير مما لا يقول الإنسان بصوته، فالكلمات قابلة للتجميل، للنسيان وللادعاء أحيانًا،لكنّه حين يختار أغنيته المفضّلة، كتابًا لا يملّ قراءته، عادة لا يستطيع التخلي عنها أو حتى لونه الأقرب إلى عينيه فإنه في تلك اللحظة يُفصح عن نفسه دون أن يشعر . الأغنية المفضّلة مثلًا، ليست مجرّد لحن وكلمات، بل هي ترجمة غير منطوقة لنبض القلب، لذكرى خفية، أو لحالة شعورية يصعب شرحها، من يفضل أغاني المطر، ليس كمن يتمايل على إيقاع الصخب، فالأول شاعرٌ هادئ الروح ينصت للعزلة، والآخر عاشقٌ للحياة يتنفسها بسرعة الضوء. والهواية المفضّلة لا تُمارس فقط للمتعة بل تحمل أثرًا أعمق ، من يزرع غالبًا يقدّس النموّ البطيء، من يكتب يُقدّر الخفاء والكلمة، من يهرول يهرب أو يسعى وفي كلا الحالتين هناك قصةٌ تُروى في خطوته، من يصوّر ينظر إلى العالم من زاوية لا يراها الآخرون، من يهوى العزف يحمل بداخله ما لا يُقال ومن يركب دراجته كل صباح يعيش الحرية بطريقة خاصة. والكتب حين نُعيد قراءتها، فإننا لا نعود لسطورها، بل لأنفسنا التي كنّاها حين قرأناها أول مرة، كل تفضيل هو بصمة، وكل بصمة هي صفحة من هوية...

اختلافٌ لا يُرى

  ثمة أرواح لا تتقاطع معك مهما طال الحديث، ولا تقترب منك وإن جمعتكم الأيام مرارًا وتكرارًا ، فلا تشابه في الفكر، ولا توافق في الشعور، ولا انسجام في الكلام. تشعر وأنت بينهم كأنك تمثّل دورًا لا يليق بك، تحاول أن تتظاهر بأنك تنتمي، لكنك في داخلك تعلم أن شيئًا لا يستقر، كأن بينك وبينهم جدارًا شفافًا، يراك ويبتسم لك، لكن لا يسمع نبضك ولا يشعر بثقل صمتك. ‏تحكي، فتضيع نبرة الصدق في زحام المجاملات، تضحك، لكن شيئًا في داخلك يبقى ساكنًا، كأن الضحكة لم تجد طريقها إلى قلبك، وتعود إلى نفسك دائمًا، مُنهكًا من محاولات التلاؤم، مرهقًا من تكرار ما لا يشبهك، تتساءل بصمت: لماذا لا أجدني هنا؟ ‏وتدرك بعد حين، أن الأرواح لا تُفرض، وأن الألفة لا تُصنع، وأن الراحة لا تأتي من كثرة اللقاء، بل من صدق الشعور ، وحين تبتعد لا تفتقدهم، بل تفتقد نفسك التي كنت تحاول أن تُخفيها بينهم. تدرك أن الراحة لم تكن في وجودهم، بل في قدرتك على أن تكون على سجيتك، بلا تكلّف، بلا محاولات مرهقة للانتماء. ليس ذلك عيبًا فيك ولا فيهم، بل هو جوهر الاختلاف، فالقرب الحقيقي لا يُفرض، والارتياح لا يُصطنع، والقلوب لا تُجبر على التآلف. ‏اح...

خفّة التخلّي

  كل ما نملكه في حياتنا، لا بد أن يمتلكنا هو أيضاً، حتى نُصبح عبيدًا له ، التعلق بالأشياء، بالأشخاص، بالأماني، يُثقل كاهلنا ويُثقل أفكارنا، ويجعلنا نعيش في قلق مستمر، خوفًا من الفقدان أو الخسارة. لكن حين نفهم أن الحرية لا تأتي من التمسك، بل من القدرة على الفقدان والتخلي، تبدأ الرحلة الحقيقية للسلام ، وهذا لا يعني أن ننسى أو نتخلى عن الأحبة أو الأحلام بسهولة، بل أن نعترف بأننا بشر محدودون، وأن بعض الأشياء ليست في أيدينا. عندما نُفرغ أيدينا من الأشياء التي نحاول أن نحتفظ بها بشدة، نشعر بالخفّة، نشعر بأنفسنا بشكل أوضح. لا تصبح الحياة أقل، بل تصبح أكثر اتساعًا. نبدأ أن نرى أن السعادة ليست في امتلاك المزيد، بل في قبول أن بعض الأشياء يجب أن تُترك لتأخذ مجراها. في هذا القبول يولد السلام الحقيقي. لا يوقفنا الألم أو الخسارة، بل يعلمنا كيف نكون أقوى، كيف نحب بحرية، كيف نعيش بصدق مع أنفسنا. وهكذا، في لحظة الوعي هذه تتحول الخسارة من جرح مؤلم إلى بداية جديدة، تفتح لنا أبوابًا لم نكن نعلم أنها موجودة.

بين الرفض والقبول

  أتذكر تلك اللحظات التي كنت أرفض فيها أن يُتبع اسم والدي بعبارة "رحمه الله " كانت الكلمات تبدو لي كطعنة جديدة، وكأن مجرد نداء اسمه يحمل إعلان غيابه، وفقدانه الذي أصبح حقيقة لا يمكن إنكارها. لم أكن مستعدة لتصديق أن ذلك الصوت الذي كان يملأ حياتي دفئًا وحضورًا، قد أصبح مجرد ذكرى تُتلى بعبارات رسمية. كنت أقاوم ذلك بشدة، أتمسك بكل كلمة يُلفظ بها اسمه دون إضافات، كأنني بذلك أُخفيه عن الموت، وأُعيده إلى عالمي الحي، إلى قلبي النابض. كان رفضي لتلك العبارة دفاعًا يائسًا عن حقيقة لم أكن أريدها أن تكون. لكن مع الوقت، ومع صمت القلب الذي بدأ يتحدث بصوتٍ مختلف، أدركت أن تلك الكلمات ليست وداعًا، بل دعاءً، وأن " رحمه الله" ليست سوى أمنية أن يبقى في سلام، حتى وإن غاب جسده. وهنا فقط بدأت أقبل الحقيقة، ليس بتسليمٍ بل بمحبة أعمق، بحقيقة أن الفقد لا ينهي الحب، وأن ذكر اسمه حتى مع " رحمه الله" هو بداية جديدة من العيش معه في قلبي، وبداخلي إلى الأبد بعد ذلك الرفض الأولي، بدأت رحلة معاناة داخلية لم تكن سهلة، بين مشاعر التمرد على الواقع ورغبة عميقة في السلام. كنت أتلو اسمه في صم...

بين سنابل الصباح

 ‏بينما إخوتي منشغلين بمتابعة مباراة الهلال، والهتافات تتعالى من داخل البيت، كنت أنا في جهة أخرى من المزرعة، أمشي حافية القدمين على آثار مطر البارحة، أردد أذكار الصباح بهدوء ، قلبي مطمئن، و رائحة المطر تعبق في الجو، تتسلل إلى صدري مع نسيم الصباح، فأشعر أنني أتنفس الحياة نفسها. ‏صعدتُ على متكأٍ مرتفع قليلًا في طرف المزرعة، أبحث عن زاوية أرقب منها شروق الشمس. كان وهجها الخجول ينساب بين الأغصان، يوقظ في القلب شيئًا من الطمأنينة. وهناك، عند الطرف البعيد، وقعت عيناي على دخانٍ يتصاعد من تحت شجرة التين الضخمة، حيث تقف جارتنا العجوز بجوار التنور، تخبز الأرغفة. جلست بصمت أراقبها، وأنا لا أزال أردد أذكاري، وكأن حضورها وسط هذا الهدوء كان تذكيرًا حيًّا بأن السكينة ليست شيئًا نبحث عنه، بل شيئًا نصادفه عندما نصغي جيدًا لصوت الحياة. ‏أكتب لكم وأنا أعلم أنها دقائق فقط، وسترسل رغيفي خبز كما تفعل دائمًا، كعربون ترحيب بقدومنا، وبلغة بسيطة لا تحتاج إلى تحيّة أو سلام .

أول البوح

  جئتُ لأكتب، لا أكثر. لا أحمل رسالة عظيمة، ولا أخطّ مشروعًا إنسانيًا يغيّر وجه العالم. أنا فقط… قررت أن أكتب، لأن الذاكرة تمتلئ، والملاحظات تضيق، والأحاديث المؤجلة تحتاج مكانًا تُقال فيه، ولو على استحياء. هنا، في هذه المساحة الصغيرة، سأترك قصصًا لم يسألني عنها أحد،  ويوميات لا يعرف أصحابها أنهم أبطال فيها. أكتب عن المواقف العادية التي تحدث كل يوم، لكن بطريقةٍ أبالغ فيها قليلًا  أو كثيرًا، حسب المزاج ،  لا أعدك بترتيب، ولا بانتظام، ولا حتى بنهاية مفهومة. كل ما أرجوه أن تبتسم أو تشهق أو على الأقل ترفع حاجبك باستغرابٍ أو دهشة. مرحبًا بك في " قَصَبَة سُكّر" حيث تُروى الحكايات بلا سبب، وتُكتب السطور كما تأتي، لا كما يجب.