بوصلة التفضيلات

 في زوايا التفضيلات الصغيرة يكمنُ الكثير مما لا يقول الإنسان بصوته، فالكلمات قابلة للتجميل، للنسيان وللادعاء أحيانًا،لكنّه حين يختار أغنيته المفضّلة، كتابًا لا يملّ قراءته، عادة لا يستطيع التخلي عنها أو حتى لونه الأقرب إلى عينيه فإنه في تلك اللحظة يُفصح عن نفسه دون أن يشعر .

الأغنية المفضّلة مثلًا، ليست مجرّد لحن وكلمات، بل هي ترجمة غير منطوقة لنبض القلب، لذكرى خفية، أو لحالة شعورية يصعب شرحها، من يفضل أغاني المطر، ليس كمن يتمايل على إيقاع الصخب، فالأول شاعرٌ هادئ الروح ينصت للعزلة، والآخر عاشقٌ للحياة يتنفسها بسرعة الضوء.


والهواية المفضّلة لا تُمارس فقط للمتعة بل تحمل أثرًا أعمق ، من يزرع غالبًا يقدّس النموّ البطيء، من يكتب يُقدّر الخفاء والكلمة، من يهرول يهرب أو يسعى وفي كلا الحالتين هناك قصةٌ تُروى في خطوته، من يصوّر ينظر إلى العالم من زاوية لا يراها الآخرون، من يهوى العزف يحمل بداخله ما لا يُقال ومن يركب دراجته كل صباح يعيش الحرية بطريقة خاصة.


والكتب حين نُعيد قراءتها، فإننا لا نعود لسطورها، بل لأنفسنا التي كنّاها حين قرأناها أول مرة، كل تفضيل هو بصمة، وكل بصمة هي صفحة من هوية لا تُرى بالعين بل تُفهم بالقلب.


حتى الأطعمة لا تخلو من المعنى، من يحب البساطة في ذوقه غالبًا ما يحبها في عيشه، من يفضّل التوابل تجده يميل إلى التجربة، من لا يتخلى عن فنجان قهوته على الأرجح لا يتخلى بسهولة عمّن يحب.


في زوايا التفضيلات أسرار كثيرة وتفاصيل عظيمة، تفاصيل هامشية في نظر البعض، لكنها عند من يلاحظ بمثابة خيوط دقيقة ترسم ملامح الذات كما هي، لا كما تُقال.


أنت قد تقول ما يُناسب اللحظة، أو ما يُرضي من أمامك لكنك لا تستطيع أن تحب شيئًا لا يُشبهك، ما تحبه يخرج منك بعفوية، يرافقك دون جهد، يظهر في طريقة حديثك، في ترتيب حياتك، في قائمة تشغيلك وفي كل مايحيط بك ويلمسك.


أسلوب الإنسان لا يتشكل من كلماته بقدر ما يتكوّن من اختياراته، لهذا، إن أردت أن تعرف شخصًا، لا تسأله عمّا يؤمن به، اسأله عن بدائله المفضلة حين ينتزع منه المألوف أو حين يختفي ما يؤمن به.


‏التفضيلات لا تُزيف فهي تشبه البوصلة ، لا تصدر صوتًا، لكنها تشير دائمًا إلى الاتجاه الحقيقي.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أول البوح

اختلافٌ لا يُرى