بين الرفض والقبول

 أتذكر تلك اللحظات التي كنت أرفض فيها أن يُتبع اسم والدي بعبارة "رحمه الله " كانت الكلمات تبدو لي كطعنة جديدة، وكأن مجرد نداء اسمه يحمل إعلان غيابه، وفقدانه الذي أصبح حقيقة لا يمكن إنكارها. لم أكن مستعدة لتصديق أن ذلك الصوت الذي كان يملأ حياتي دفئًا وحضورًا، قد أصبح مجرد ذكرى تُتلى بعبارات رسمية.

كنت أقاوم ذلك بشدة، أتمسك بكل كلمة يُلفظ بها اسمه دون إضافات، كأنني بذلك أُخفيه عن الموت، وأُعيده إلى عالمي الحي، إلى قلبي النابض. كان رفضي لتلك العبارة دفاعًا يائسًا عن حقيقة لم أكن أريدها أن تكون.

لكن مع الوقت، ومع صمت القلب الذي بدأ يتحدث بصوتٍ مختلف، أدركت أن تلك الكلمات ليست وداعًا، بل دعاءً، وأن " رحمه الله" ليست سوى أمنية أن يبقى في سلام، حتى وإن غاب جسده.

وهنا فقط بدأت أقبل الحقيقة، ليس بتسليمٍ بل بمحبة أعمق، بحقيقة أن الفقد لا ينهي الحب، وأن ذكر اسمه حتى مع " رحمه الله" هو بداية جديدة من العيش معه في قلبي، وبداخلي إلى الأبد

بعد ذلك الرفض الأولي، بدأت رحلة معاناة داخلية لم تكن سهلة، بين مشاعر التمرد على الواقع ورغبة عميقة في السلام. كنت أتلو اسمه في صمت، أستعيد صوته في ذاكرتي، أحاول أن أحتفظ بكل تفاصيله، كأنه كان سيمضي لحظةً ثم يعود. لكن الحقيقة كانت تثقل قلبي شيئًا فشيئًا، لا تخبو، بل تزداد وضوحًا.

تعلمتُ أن الحب الحقيقي لا يُقاس بالوجود الجسدي، بل بعمق التأثير وبقاء الذكرى حيّة في الروح، وبدأت أرى أن " رحمه الله" ليست النهاية، بل البراءة التي تمنيت له بها راحة أبديّة، وسلامًا لا ينقطع ، فصرتُ أرددها بخشوع، وكأنني أُصلّي .

مع كل يوم، أصبح الألم أخف، والحياة أرحب، ووجدتُ نفسي أستطيع أن أتنفس بحرية أكبر، أن أُحب بدون خوف من الغياب، وأن أُسمح لنفسي بأن أكون قوية رغم الضعف.

في هذا المشوار، تحوّل فقد والدي من جرحٍ غائر إلى جسرٍ يربطني به على الدوام، جسرٌ من حب لا يموت، وذكرى لا تنطفئ، وقوة تنبع من أعماقي تذكرني أن الحياة، رغم كل شيء، تستحق أن تُعاش بكل أمل وإيمان.

مع مرور الوقت، بدأت أشعر بوميض من الأمل يشرق في داخلي، كأن روحه تهمس لي بأن الحياة لا تزال مليئة بالجمال ، علمتُ أن فقده لم يكن نهاية الطريق، بل محطة في رحلة طويلة يجب أن أكملها بإصرار وقوة.

صرتُ أمتنُّ لكل لحظة جمعتني به، لكل كلمة قالها، لكل لمسة دفئت بها روحي. الامتنان تسلل إلى قلبي، وعلمني كيف أقدّر الحياة وأحتفي بها، حتى في ظل الغياب.

تعلمت أن أرى في الألم درسًا، وفي الفقد فرصة للنمو، وفي الحزن بذرة أمل تزهر مع الأيام، صار قلبي يفتح أبوابه للفرح من جديد، لا لأنني نسيت، بل لأنني أحببت بعمقٍ أكبر، وأصبحت أقوى بفضل ما تركه لي.

وهكذا، تحوّلت ذكراه إلى نور يضيء دربي، يدفئ وحدتي، ويمنحني القدرة على العيش بحبّ أعمق، وأمل أكبر، وشجاعة لا تنكسر.





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أول البوح

بوصلة التفضيلات

اختلافٌ لا يُرى